إرنست ماندل
الحوار المتمدن - العدد: 1575 - 2006 / 6 / 8
حالية النظرية اللينينية في التنظيم
لا يمكن الخوض في نقاش جدي حول المعنى التاريخي للنظرية اللينينية في التنظيم وحاليتها إلاّ إذا عيّنا بدقةٍ مكانة هذه النظيرة وأهميتها في تاريخ الماركسية، أو بصورة أدق: في السيرورة التاريخية، لتطور الماركسية وازدهارها، التي ينبغي إرجاعها، ككل سيرورة تاريخية، إلى تناقضاتها الداخلية - في التأثير المتبادل الوثيق بين تطور النظرية وتطور النضال الطبقي البروليتاري. إن النظرية اللينينية في التنظيم تبدو، من وجهة النظر هذه، كوحدة جدلية لثلاثة عناصر هي: نظرية في حالية الثورة في البلدان المتخلفة في عصر الإمبريالية (وقد امتدت فيما بعد لتصبح نظرية في حالية الثورة على المستوى العالمي في عصر الأزمة المعممة للرأسمالية)، نظرية في التطور المتقطع والمتناقض للوعي الطبقي البروليتاري ولأكثر أطواره أهمية، هذه الأطوار التي ينبغي تمييزها الواحد عن الآخر. ونظرية في جوهر الماركسية وفي علاقاتها النوعية سواء بالعلم أو بالنضال الطبقي البروليتاري.
إن تفحصا للموضوع أكثر تعمقاً سوف يوضح أن هذه النظريات الثلاث تشكل "الأساس الاجتماعي" للمفهوم اللينيني حول التنظيم، ذلك الأساس الذي بدونه يصبح هذا المفهوم اعتباطياً، غير مادي وغير علمي. ليس المفهوم اللينيني للحزب هو المفهوم الوحيد الممكن، إلاّ أنه الوحيد الذي يلقي على عاتق حزب الطليعة التبعية التاريخية لقيادة ثورة معتبرة أمراً محتوماً على مدى متوسط أو بعيد. لا يمكن فصل المفهوم اللينيني للحزب عن تحليل نوعي للوعي الطبقي البروليتاري، أي أن هذا المفهوم ينطلق من واقع كون الوعي الطبقي السياسي - خلافا للوعي "التريديونيوني" أو "النقابي الصرف" - لا ينمو تلقائياً ولا آلياً، منطلقاً من التطور الموضوعي للنضال الطبقي البروليتاري وحسب[1]. إنه يرتكز أخيراً إلى استقلالية معينة للتحليل العلمي أي للنظرية الماركسية التي، وإن كانت مشروطة تاريخياً بتطور النضال الطبقي البروليتاري وببوادر الثورة البروليتارية، لا يمكن اعتبارها نتاجاً آلياً لهذا النضال الطبقي، بل ينبغي النظر إليها كنتيجة ممارسة نظرية )نتاج نظري) لا تتوصل للارتباط بالنضال الطبقي إلاّ تدريجياً. إن تاريخ الثورة الاشتراكية العالمية في القرن العشرين هو تاريخ هذه السيرورة البطيئة.
إن هذه التحليلات الثلاثة تمثل فعلياً تعميقاً للماركسية: إما لمسائل لم يتطرق لها ماركس وإنجلز إلاّ سطحياً ولم تجر بلورتها فيما بعد، وإما لعناصر في النظرية الماركسية لم تؤخذ بالاعتبار تقريبا، بفعل التأخر أو التوقف عن نشر كتابات ماركس في الفترة الواقعة ما بيم 1880 و1905[2]. يتعلق الأمر إذا بتطوير جديد للنظرية الماركسية ينبغي البحث عن أصله في ثغرات (وتناقضات) التفسيرات التي تناولته خلال ربع القرن الأول الذي تلا وفاته.
إن خصوصية هذا التعميق للنظرية الماركسية تكمن في كونها تخضع مختلف الزوايا التي يجري انطلاقا منها تناول هذه النظرية إلى نقطة مركزية، ألا وهي تحديد خصوصية الثورة البروليتارية أو الاشتراكية على وجه العموم.
--------------------------------------------------------------------------------
الخصوصيات التاريخية للثورة البروليتارية
خلافاً لجميع الثورات الماضية، سواء الثورة البورجوازية التي قام ماركس وإنجلز بالدرجة الأولى بدرس منطقها بتعمق، أو الثورات التي لم تخضع لتحليل منهجي حتى الآن (كالثورات الفلاحية وثورات البرجوازية الصغيرة المدنية ضد الإقطاع. وتمردات العبيد، وانتفاضات تجمعات قبلية ضد المجتمع العبودي، والثورات الفلاحية في الأنماط القديمة للإنتاج الأسيوي التي كانت تنحل دوريا…الخ)، فإن الثورة اليروليتارية في القرن العشرين تتميز بأربع سمات خاصة تضفي عليها خصوصيتها ولكنها كذلك سبب صعوبتها، كما كان حدس ماركس بذلك[3].
إن الثورة البروليتارية هي أول ثورة ظافرة في التاريخ تنجزها الطبقة الأدنى في المجتمع، طبقة تمتلك في الواقع طاقة اقتصادية عظيمة، لكن قوتها الاقتصادية الفعلية هي الأضعف، وهي محرومة إجمالاً من أية مشاركة في الثورة الاجتماعية (خلافاً لامتلاك مواد الاستهلاك التي يتم استهلاكها باستمرار). هذا بخلاف البرجوازية أو طبقة النبلاء الإقطاعية مثلاً، اللتين استولتا على السلطة السياسية في حين كانت السلطة الاقتصادية في المجتمع قد انتقلت إليها، أو طبقة العبيد التي لم تنجح في الوصول بأي من ثوراتها إلى النصر.
إن الثورة البروليتارية هي الثورة الظافرة الأولى التي تهدف إلى قلب مخطط وواع للمجتمع القائم، أي التي لا تنوي إعادة وضع سابق (كما كانت الحال مع ثورات العبيد أو الفلاحين في الماضي)، بل تحقيق سيرورة جديدة كلياً، لم توجد من قبل أبداً، إلاّ في شكل "نظرية" أو "برنامج"[4].
تنمو الثورة البروليتارية، تماماً مثلما هي الحال في الثورات الأخرى في التاريخ بالضبط، إنطلاقا من تناقضات طبقية داخلية ونضالات طبقية تستثيرها في المجتمع القائم. لكن في حين كانت ثورات الماضي تكتفي بدفع صراع الطبقات إلى ذروته -لأن الأمر لم يكن يتعلق بالنسبة إليها بإرساء علاقات اجتماعية جديدة كلياً ومخطط لها بصورة واعية- لا تستطيع الثورة البروليتارية أن تتحقق إلاّ إذا استطاع نضال البروليتاريا أن يبلغ أوجه بسيرورة عملاقة متواصلة على امتداد السنين والعقود. إنها سيرورة تقوم بقلب العلاقات الانسانية وأسا على عقب، بصورة منهجية وواعية، وبتعميم النشاط المستقل للبروليتاريا بادئ ذي بدء، ثم فيما بعد (حين بلوغ المجتمع اللاطبقي) لكل أعضاء المجتمع. في حين يؤدي انتصار الثورة البرجوازية إلى تحويل الطبقة البرجوازية إلى طبقة محافظة لا تعود قادرة على إنجاز تحولات ثورية إلاّ في الميدان الثقني -الصناعي حيث تلعب لفترة دوراً موضوعياً في التاريخ، بل تنسحب بالمقابل من دائرة التحولات الفاعلة للحياة الاجتماعية، وتلعب على هذا الصعيد دوراً أكثر فأكثر رجعية إذ تصطدم بالبروليتاريا الخاضعة لاستغلالها، ولا يشكل استيلاء البروليتاريا على السلطة نهاية نشاط الطبقة العاملة الحديثة بل فقط بداية هذا النشاط الذي يقلب المجتمع رأسا على عقب ولا يمكن أن ينتهي إلاً عبر تخطيها لذاتها من حيث هي طبقة، بالتوازي مع تخطي كل الطبقات الأخرى[5].
على النقيض من كل الثورات الاجتماعية الماضية التي حدثت إجمالا في الإطار القومي (أو كانت تقتصر على مناطق) فإن الثورة البروليتارية هي بطبيعتها أممية؛ لن تكتمل إلاّ بالتشييد العالمي الشامل لمجتمع بدون طبقات. علماً أنه ينبغي أن تنتصر بالضرورة في الإطار القومي بادئ ذي بدء، سيبقى هذا الإنتصار مع ذلك مؤقتاً، ما دالم صراع الطبقات لم يلحق هزيمة حاسمة بالرأسمال على المستوى العالمي. فالثورة البروليتارية إذن سيرورة ثورية عالمية لا تتم بصورة مستقة موحدة. إن السلسلة الامبريالية تنكسر في البدء عند حلقتها الأظعف، وتتناسب الحركة، المتمثلة بقفزات صعود وتراجع على مستوى الثورة، مع قانون التطور اللامتساوي والمركب (ليس فقط في الميدان الاقتصادي، بل كذلك في ميزان القوى بين الطبقات. إن الأمرين كليهما لا يتطابقان آلياً في أي حال من الأحوال).
تأخذ نظرية التنظيم اللينينية في الحسبان كل خصائص الثورة البروليتارية تلك، أي أنها تعيّن ميزات هذه الثورة على ضوء خصائص وتناقضات تَشكُّل وعي الطبقة البروليتارية. إنها تعبر علانية هما لم يقم ماركس بأكثر من الشروع به، عمّا تعبر علانية عما لم يستوعبه ورثته إلاّ بصورة ضحلة، عنينا حقيقة أنه لا يمكن أن يحدث قلب "آلي" للنظام الاجتماعي الرأسمالي ولا استبدال "تلقائي" أو إنحلال عضوي لهذا النظام الاجتماعي عبر بناء مجتمع اشتراكي. إن الثورة البروليتارية وبسبب طابعها الواعي الفريد بالتجديد تفرض مسبقاً أن تنضج العوامل "الموضوعية" (أزمة اجتماعية عميقة يعبر عنها واقع أن نمط الإنتاج الرأسمالي أدى مهمته التاريخية)، كما العوامل "الذاتية" (نضج وعيي الطبقة العاملة ونضج قيادتها). فإذا كانت هذه العوامل الموضوعية غير متوافرة بشكل كاف، فسوف تصطدم الثورة البروليتارية بهذا الجدار، وستساهم هزيمتها بالذات وتدعيم الاقتصاد والمجتمع الرأسماليين، لمدة من الزمن[6].
إن النظرية الينينية في التنظيم تمثل تعميقاً للماركسية مطبقاً على المشكلات الأساسية للبنية الفوقية للمجتمع (الدولة، الوعي الطبقي، الايديولوجيا، الحزب). إنها تشكل، مقرونة بأعمال روزا لوكسمبورغ وتروتسكي، (وإلى درجة ما أعمال لوكاش)، ماركسية العامل الذاتي.
--------------------------------------------------------------------------------
الأيديولوجيا البرجوازية والوعي الطبقي البروليتاري
إن موضوعة ماركس القائلة: "ليست الايديولوجيا المسيطرة في مجتمع ما إلاّ إيديولوجيا الطبقة المسيطرة"، تتعارض للوهلة الأولى مع وصف الثورة البروليتارية بأنها قلب واع للمجتمع تقوم به البروليتاريا، ونشاط ذاتي لجماهير المأجورين. يمكن لتفسير سطحي لهذه الموضوعة أن يقود إلى استنتاج مؤاده أنه من الطوباوية بمكان أن نتوقع من الجماهير المسيَّرة في ظل النظام الرأسمالي والمعرضة لتأثير الأفكار البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، أن تنخرط في نضال طبقي ثوري ضد هذا المجتمع، أو حتى في ثورة اجتماعية. ليس هربرت ماركوز (مؤقتاً) إلاّ الأخير في القائمة الطويلة للأيديولوجيين الذين يطرحون للمناقشة الطاقات الثورية الكامنة لدى الطبقة العاملة، منطلقين من التحديد الذي يعطيه ماركس للطبقة المسيطرة.
يمكن حل المشكلة باستبدال طريقة النظر الشكلية والجامدة بطريقة ديالكتيكية. ينبغي جعل صيغة ماركس اكثر "دينامية"، على الشكل التالي: إن الإيديولوجيا المسيطرة في كل مجتمع هي ايديولوجية الطبقة المسيطرة بمعنى أن هذه تمسك بزمام الرقابة على وسائل الإعلام الجماهيرية، الخ..) التي في متناول المجتمع، وتستخدمها وفقا لمصالحها الطبقية. إن إيديولوجيا الطبقة المسبطرة تسيطر على وعي الجماهير الخاضعة، طالما تكون السيطرة الطبقية فتية، مستقرة وبالتالي غير مطروحة للبحث. في المراحل الأولى للصراع الطبقي، يلجأ المستغلون (بفتح الغين) غالباً لصيغ المستغلين (بكسر الغين) ومثلهم العليا وإيديولوجياتهم[7]. اكن كلما طُرح النظام الإجتماعي على بساط البحث، وأصبح الصراع الطبقي أكثر حدة والسيطرة الطبقية أشد اهتزازاً، كلما تحرر أقسام من الطبقة المضطهدة (بفتح الهاء) من أفكار المسيطرين. إن الصراع بين إيديولوجية الطبقات المسيطرة والأفكار الجديدة للطبقات الثورية يسبق الثورة الاجتماعية، ويسرّع من جهته الصراع الطبقي العملي بمقدار ما يساعد الطبقة الثورية على بلوغ وعي مهامها التاريخية الخاصة بها وأهداف نضالها المباشرة، وهكذا يمكن أن ينشأ الوعي الطبقي لدى الطبقة الثورية عن الصراع الطبقي على الرغم من أيديولوجيا الطبقة المسيطرة وبمعارضتها[8]. لكن فقط في الثورة بالذات، يمكن لأكثرية المضطهدين أن تتحرر من سيطرة الأيديولوجيا البورجوازية[9]، التي تمارس (بفتح الراء) -خاصة في المجتمع البورجوازي، وإن كانت تظهر تجليات موازية في مجتمعات طبقية أخرى- ليس فقط، ولا حتى للوهلة الأولى، بفعل التحريك الأيديولوجي لكن كذلك (وعلى وجه الخصوص) في التشابك الاقتصادي والاجتماعي اليومي بالذات وفي انعكاساته داخل رؤوس المضطهدين (بفتح الهاء). إن ذلك يعني في المجتمع الرأسمالي: استبطان العلاقات السلعية -المرتبطة بصورة وثيقة بتشيء العلاقات الإنسانية، - الذي يمد جذوره في تعميم الإنتاج السلعي وفي تحويل قوة العمل إلى سلعة، كما في تعميم التقسيم الاجتماعي للعمل ضمن شروط الإنتاج السلعي، إنهاك المنتجين وتوحيشهم عن طريق العمل المستلب (بفتح اللام) والإستغلال وافتقاد أوقات فراغ (ليس كميا وحسب، بل كذلك نوعيا)، الخ… إنه فقط بمستطاع ثورة، أي نشاط متنام فجأة تقوم به الجماهير خارج إطار العمل المستلب، أن تفجر طوق هذا التشابك، وهي بالتالي قادرة على جعل التأثير التزييفي لهذا الطوق على وعي الجماهير ينحسر.
تحاول النظرية اللينينية في التنظيم أن تلتقط الجدل الداخلي لسيرورة تشكل الوعي الطبقي السياسي، الذي لا يبلغ تطوره الكامل إلاّ خلال الثورة بالذات. إلاّ أن ذلك مشروط ببدء هذا التطور قبل الثورة[10]. إنها تعمل من أجل هذه الغاية بفعل مقولات ثلاث هي: الطبقة العاملة (جمهور الشغيلة)؛ القسم المنظم من الطبقة العاملة على مستوى أولي (الطليعة البروليتارية بالمعنى الواسع للكلمة)[11]، والتنظيم الثوري، الذي يشكله الشغيلة والمثقفون الذين تلقوا تكوينا ماركسيا، على الأقل بصورة جزئية، والذين يضطلعون بممارسة ثورية.
إن لمقولة "الطبقة في ذاتها" أصلها في مفهوم الطبقة الموضوعي كما حدده ماركس، الذي يعتبر أن شريحة اجتماعية إنما يحددها موقعها الموضوعي في سيرورة الإنتاج، بالاستقلال عن وعيها، (كان ماركس الشاب قد دافع في البيان الشيوعي وفي الكتابات السياسية ما بين 1850 و1852، عن مفهوم ذاتي للطبقة ينطلق من مبدأ أن الطبقة العاملة لا تتشكل كطبقة إلاّ عبر النضال، أي إنطلاقا من حد أدنى من الوعي الطبقي). يشير بوخارين إلى مقولة الطبقة الاجتماعية هذه بمفهوم "الطبقة لذاتها"خلافاً للطبقة "في ذاتها"[12]. هذا المفهوم الموضوعي للطبقة يبقى أساسا من أجل تحليل الرأسمالية[13]، وفقا للتصور اللينيني للتنظيم، كما بالنسبة لإنجلز وللاشتراكية الديموقراطية الألمانية بقيادة إنجلز وبيبل وكاوتسكي.
لا يكس مفهوم حزب ثوري طليعي (والثوري المحترف) معنى عمليا، كما يبرزه لينين ذاته[14]، إلاّ لأن ثمة طبقة ثورية موضوعياً قادرة على خوض صراع طبقي ثوري، وبشرط أن يكون مرتبطا بنضال طبقي من هذا النوع. بدون هذا الإرتباط، يمكن للنشاط الثوري أن ينتج نواة حزب، لكن ليس حزبا. وهذه تتعرض لمخاطر الإنحلال باتجاه هواية ذاتية فئوية. إن المفهوم اللينيني للتنظيم يستتبع عدم وجود طليعة تعلن ذاتها بذاتها، وأنه ينبغي للطليعة، وهي تعمل على إرساء رابط ثوري يشدها إلى الجزء المتقدم من الطبقة وإلى نضالاته الفعلية، أن تكسب الإعتراف كطليعة (أي الحق التارسخي بالعمل كطليعة). إن لمقولة "الشغيلة المتقدمين" أساسها في التراتب الموضوعي الحتمي للطبقة العاملة، المتناسب مع أصلها التاريخي، كما مع موقعها في سيرورة الإنتاج الإجتماعي، ومع وعيها الطبقي. إن تشكل الطبقة العاملة كمقولة موضوعية هو ذاته سيرورة تاريخية. إن بعض أقسام الطبقة العاملة مكونة من المتحدرين من عمال المدن أو العمال الزراعيين والفلاحين المنزوعي الملكية. بينما تأتي أقسام أخرى من الورجوازية الصغيرة (الفلاحون، الحرفيون، الخ...) يشتغل جزء من الطبقة العاملة في المشاريع الكبرى حيث تساعد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية على تطوير وعي طبقي أولي (وعي عدم إمكانية حل "المسائل الإجتماعية" إلاّ بالعمل والتنظيم الجماعيين). أو في ما يسمونه المصالح، حيث تولد الثقة الاقتصادية وفهم ضرورية أعمال جماهيرية واسعة بصورة أبطأ بكثير مما في المشاريع الصناعية الكبرى.
إن بعض أقسام الطبقة العاملة تعيش منذ زمن بعيد في المدن الكبرى، وهي تعرف القراءة والكتابة، ولها خبرة التنظيم النقابي وتربية سياسية وثقافية (تنظيمات الشبيبة، الصحافة العمالية، تكوين الشغيلة، الخ…). وتعيش أقسام أخرى، على العكس من ذلك، في مدن صغيرة أو في الريف (ينطبق ذلك مثلا على قسم مهم من عمال المناجم الأوروبيين حتى في الثلاثينات)، ولا تمارس أية حياة اجتماعية، كما أنها لم تعرف تقريبا أي ماض نقابي ولا أي تكوين سياسي وثقافي في الحركة العمالية المنظمة.
إن بعض قطاعات الطبقة العاملة تولد منذ مئات السنين في أمم مستقلة دأبت طبقيتها المسيطرة على اضطهاد الأمم الأخرى لفترة طويلة. بينما تولد قطاعات أخرى في بلدان قاتلت عشرات ومئات السنين من أجل حريتها القومية، أو أن هذه القطاعات كانت تعيش في ضل العبودية والقنانة قبل ما لا يزيد على قرن من الزمن.
إذا أضفنا أيضا إلى كل هذه المميزات التاريخية-البنيوية الطاقات الشخصية المختلفة لكل شغيل مأجور -ليس فقط الفروق في الذكاء والكفاآت لكن كذلك في الطاقة في قوة الطبع، في النضالية كما في وعي الإمكانية الذاتية- نفهم تماما عند ذلك أن تراتب الطبقة العاملة في شرائح مختلفة (بالنسبة إلى درجة الوعي الطبقي) هو نتيجة طبيعية محتومة لتاريخ الطبقة العاملة. إنها الصيرورة التاريخية للطبقة تنعكس عند لحظة معينة في مستويات الوعي المختلفة لديها.
إن جذور مقولة الحزب الثوري هي في واقع أن الاشتراكية علم لا يمكن امتلاكه إلاّ في الدرجة الأخيرة في كليته، ليس (وبصورة جزئية تخطي) علم اجتماعية تقليدية ثلاثة على الأقل: الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي والعلم السياسي الفرنسي الكلاسيكي (الاشتراكية والتأريخ الفرنسي). إن استيعابها يفترض مسبقا يفترض مسبقا تمرسا بالجدل المادي، بالمادية، بالمادية التاريخية، بالنظرية الاقتصادية الماركسية وبالتاريخ النقدي للثورات وللحركة العمالية الحديثة؛ هكذا فقط يمكن أن تصبح في كليتها أداة صالحة لتحليل الواقع الاجتماعي ورسملة خبرات قرن من النضالات العمالية. إنه من العبث الاعتقاد أن هذه المعارف وهذا العلم يمكن أن تنبت "تلقائيا" من العمل على المخرطة أو على آلة الحساب[15]. إن واقع كون الماركسية كعلم هي التعبير عن الوعي الطبقي البروليتاري في درجة تطوره العليا لا يعني شيئا آخر غير ما يلي: فقط بالاختيار الفردي، يمكن للأعضاء الأكثر خبرة، الأكثر ذكاء، والأكثر نضالية في صفوف البروليتاريا أن يكونوا مباشرة وبصورة مستقلة وعيا طبقيا كهذا إلاّ أنه، لكون هذا الامتلاك فرديا، فهو يمكن كذلك أن يكون في متناول أعضاء طبقات أخرى أو شرائح اجتماعية أخرى (مثقفين وطلابا ثوريين قبل كل شيء)[16]. إن أي تطور آخر يكمن في مثلنة Idéaliser الطبقة العاملة، وبالدرجة الأخيرة الرأسمالية ذاتها.